top of page

عناوين غير مؤكدة، مستقبلات غير مؤكدة


معلومات كثيرة تنقص أُمّي لتُدرِكَ كم هو محال أمامي تثبيت عنوان السكن في منطقة تم حظرها أمام الأجانب. لشرحٍ أكثر وضوحا حول هذا. سأقول منذ مايقارب السنتين منع في تركيا أمام أي أجنبي تنزيل عنوان سكن أو أي إجراء رسمي لمنزل إذا كان موجوداً في منطقة تم تطبيق الحظر عليها.


حظر تقيد النفوس، المشكلة المعقدة التي بدأنا نعاني منها أنا وأُمي وأبي ومابقي من أفراد العائلة، منذ سنة ونصف السنة حينما جبرت على إخلاء منزلي القديم والانتقال إلى حي آخر كان قد تم حظره مسبقاً دون معرفة مني.


يترتب على الأجنبي بشكل خاص بعد إنتقاله إلى منطقة أخرى أن يقوم بتحديث البيانات. وتحديث البيانات هو قانون معنى بتعديل المعلومات الشخصية للفرد، فإذا كان أحدنا قد قام بتغيير مكان الإقامة وعنوان السكن وما إلى ذلك يتوجب عليه مراجعة دائرة الهجرة للقيام بالإجراءات اللازمة وتوثيق ما حدث من تغيير في معلوماته.


تحديث البيانات أمر سلس وغير مكلف، لا يتطلب أكثر من حجز موعد ثم تجهيز الأوراق اللازمة، أرغب في القول إن الأمر لا يستدعي من تعب سوى أن تبذل القليل من الجهد للذهاب والإياب إلى دائرة الهجرة، ثم كَما تُسَلُّ الشَّعرة مِنَ الْعَجينِ ستتمكن من إنهاء معاملتك بسهولة. يحول الأمر إلى معضلة شاقة ومكلفة أمام السكان الجدد للمناطق المحظورة، فتحديث البيانات مرتبط بشكل وثيق بعنوان السكن، والقانون الجديد لا ينص على إجازة تثبيت عنوان السكن للأجنبي إذا كان قد استئجر المنزل في المناطق المشمولة بالحظر. الحل الوحيد لتخطي هذه العقبة هو قيامه بالبحث عن منطقة أخرى متاح فيها تثبيت النفوس...


تلك مسألة معقدة أبحث عن حل لها ليس كمن يبحث عن أبرةٍ مخبأة في كومة قش، بل كمن يبحث عنها خارج الغلافِ الجوي للكرة الأرضية. أيجاد منزلٍ في هاتاي أصبح من رابع المستحيلات عند العرب، لذا لجأت إلى حلول أخرى لم أكن متأكدًا من فاعليتها لكنني اتخذتها من منطلق عسى أن أجد منها سبيلا. أوراق الحجوزات المبعثرة في غرفتي المعيشية استطيع اليوم أن أصنع من قصاصاتها عربة سير أو منزلٍ صغير أو حصان. موظفي دائرة الهجرة باتوا على معرفة وأطلاع تام على قصتي ومن أكون، أعتقد أنهم حفظوا إسمي ولقبي أكثر من حفظهم لطرقهم المؤدية إلى منازلهم. ولكثرة مجيئي الدائم إليهم أصبحت مقتنعا أنني سأبقى في أذهانهم مدى الحياة، تربطنا اليوم علاقة أقوى مما كنا عليها عند بداية مشكلتي فأنا بالنسبة لهم أصبحت شخصًا مدللا. لقد اعتادوا على مجيئي وأصبحت منهم أقرب إلى الصديق، أعامل هنالك كما يعامل مالك البقالية زبونه الدائم، أجلس على المقعد في قاعة الانتظار كأنني استلقي متمددًا على العشب الأخضر، أشعر بالسلام النفسي عندما أذهب إلى دائرة الهجرة، استقبل بود وابتسامات وأعتقد أنني لو استمررت على هذا الحال سيقال لي: "أدخل، أنت من أهل البيت". أتحدث مع الموظفين هنالك بكل أريحية ودون ارتباك، يراعونني لدرجة أنهم يسمحون لي بشرب الماء من قواريرهم الخاصة الموضوعة فوق طاولاتهم، أشعر كأنني أعرفهم منذ زمن طويل وأستطيع دون خوف أو خجل أن أطلب منهم خدمات لا يمكنهم تقديمها...


أضحكُ مَعَهُمْ وأمازحهم، يبادرونني بذلك، تقدم لي كافة الأرشادات، وحينما أتصل على الرقم الخاص بدائرة الهجرة يجاب دونَ مللٍ وبدون تأفف عن كل أسئلتي واستفساراتي فيما يتعلق بمشكلتي المتعلقة بعنوان السكن. قمتُ بطلبِ هذا الرقم على مدارِ عام ونصف حتى باتَ يتصدر القائمة الأكثرَ طولا في سجل مكالماتيَ الصادرة بعد والدَيَّ ومعلمي في الورشة...


في تركيا يُفيدكَ عنوانُ المَنزل أكثرَ من ما يقدمهُ المَنْزِلُ ذاته من مأوى وراحةٌ وستر لك أتكلمُ بشكل خاص على حملةِ بطاقةِ الحمايةِ المؤقتة، لأنها ستلغى في الحالة التي لا يقوم فيها الفرد بتقيد عنوان سكنهِ لدى الجهة المعنية بذلك، لهذا من الضروري جدا أبلاغَ دائرةُ الهجرة عن عنوان السكن وإلا سَتعتبركَ السُلطات شَخْصٌ مجهول الأقامة وستكون الضريبة هي إبطالُ الهوية الشخصية وحِرمانُكَ من الأقامة في هذه البلاد في حال تم التدقيق عنك في سجلات الدولة، ثم ستُرحل في الحال الذي يتمُ فيه توقيفكَ والتدقيق عن هويتك من قِبَلَ عناصر الأمن، ولن تستطيع الأفلات منهم حتى لو أظهرت لهم كل الأوراق والأثباتات، ستعتبر إنها مستخرجةٌ بشكل غير قانوني لطالما كانت قيودك متوقفة وسيكون المصير محتماً… من يقيم في تركيا يدرك هذا.


تثبيت عنوان السكن بالنسبةِ للأهالي الذين قدموا جديداً للمناطق المحظورة مهمة صعبة وتعجيزية. ولإنجازها بشكل قانوني يتوجب عليك استئجار منزل آخر في منطقةٍ أخرى ليست مغلقةٌ أمام الأجانب، والبحثُ عن منزل في هذه الأيام أمرٌ أعقد من تيهك في صحراء شاسعة، لا لأنها غير متوفرةٍ، بل لأن كل المناطق التي من الوارد أيجاد منزل فيها قد تم حظرها، وأما بالنسبة لبقية المناطق فتلك مناطق الأثرياء وأسعار العقارات فيها فاحشةً لدرجة كبيرة، قد يصل أجر الشقة هنالك إلى ثلاثة عشر ألفًا، وهذا المبلغ كبيرٌ علي ك نازح حرب لا املك سوى المعاش الذي ي.


اتقاضاهُ شهرياً من عملي كأجير، لذلك قلما تجد سورياً يقيم هنالك إلا إذا كان يتقاضى مقابل عمله ضعف الراتب المعاشي المحدد من قبل الدولة...


من الوسائل الضعيفة التي اتبعها لتحديث البيانات، إني أضغطُ من حينٍ إلى آخر على الموقع الرسمي لدائرة الهجرة على أمل أن تكون الإدارة قد رفعت الحظر عن المنطقة التي أسكنها. ودائمًا ما أرى أنها لا تزالُ في قائمة المناطق المحظورة. ما يزيدُ من خشيتي وخشية والدي من أن تقوم الدولة بالالتفات إليّ وإبطال بطاقتي الشخصية… لهذا السبب، دائمًا تناشدني أمي بصوت يأكلُ قلبي قهرًا بأن ألتزمَ فيما يتطلبهُ القانون مني كلاجئ حرب "إن صح التعبير"، وتحثني دائمًا على أن لا أتهاونَ بتطبيق الإجراءات القانونية المفروضة عليَّ وأن لا أخالف الأنظمة لكي لا أعاقب بالطرد من هذه البلاد إلى بلاد يحكمها تجار الدم والحروب. هكذا هم الأهل، دائمًا ما يرافقهم القلق على ما يهدد سلامة أبنائهم في الغربة، فالترحيل بالنسبة لي لن يكون رصاصةً في منتصف الجبهة فحسب، بل هو عملية إغتيال ستسحب فيها الروح ببطئ يليق بحلزون. عندما نتحدث أنا وأمي عن مشكلتي، أحاولُ أن أخفي عنها العراقيل التي تقف أمامي مثل أسلاك شائكة مزودة بتيار كهربائي، فأبشرها بالخير، أريح بالها وأغرس الطمأنينة في قلبها المشتعل خوف، لعلي استطيع أن أزيل عنها هذا الهاجس الذي يحاصرها قلقًا وخشيةً أو أتمكن من جعله أقل حدةً على نفسها.


في حملة إسطنبول الأخيرة التي أطلقتها السلطات للتدقيق والتفتيش عن المخالفين من أصحاب الأقامات المنتهية وعن من لا يملكون الوثائق التي تثبت أنهم مقيمين بشكل شرعي، باتت أمي خائفة بشكل لم أعهده من قبل، كان ذلك في آخر مكالمة هاتفية أجرتها معي، اتصلت حينها بالتزامن مع الحملة تستفسر عن ما إذا كنت قد استطعت معالجة مشكلتي، صوتها كان يتماثل مع صوت مريض أصيب بالتهاب الحنجرة أو شلل في أعصابها، أسمعه كما لو أني أسمع صوت جريح يطلب النجدة ولوهلة شعرت به كما لو أنه خارج من تحت أنقاض، كنت حينها متيقنا من تضخم قلقها ومخاوفها النفسية حيال ما يهدد وجودي كلاجئ، قالت لي حين ذلك "بني عليك الآن الا تتهاون في السعي لتدبير شؤنك وأن تسارع في إيجاد منزل بأي ثمن كان"، ثم استأنفت تحدثني وتطرح لي الحلول البديلة، أحدها كان أن أقوم بتزيل عنوان سكن عند أي صديق أو عائلة أعرفها "قل لهم لفترة مؤقتة ريثما أجد منزلا فقط... هكذا كانت تقول بشكل متكرر.

حلٌ جيدٌ لا يكلف أكثرَ من أحضار ورقة رسمية من مختار الحي وتصديقها في دائرة الهجرة، المشكلة أن أمي ما زالت لا تعلم مدى صعوبة هذا الأمر ومشقته، السوريين هنا، تخاذلوا معي خذلانًا يليق بتخاذل حكام العرب مع القضية الفلسطينية وأبناؤها، أو مع أنفسهم ذاتها، الأصدقاء ومن أنا على صلة بهم كانوا عبارة عن أقاويل فقط لا أفعال، تلك الأقاويل هي عبارة عن أكاذيب فضحت حقيقتهم أمامي حينما طلبت منهم يد العون، كانوا يجاملونني يا أمي لا أكثر، وما تبقى من السوريين المقيمون هنا كان من الصعب جدا عليَّ أن أتخذهم سندًا أو أن أعتمد عليهم لحل مشكلتي، تنطبق عليهم يا أمي عبارة قليلو الخير بشكل كبير...


هذا ما رأيته بأم عيني خلال رحلتي الطويلة للبحث عن من يكون أهلا لمساعدتي، يؤسفني أنني لن استثني أحدًا ممن أعرفهم هنا بل أكتب أن جلهم كانوا كما نعتهم، حقيقة كان يجب أن تقال، لا لأنني أود فضحهم بل لأنني أحمل في قلبي عبء هائل من العتب الممزوج باليأس الحاد والخيبة، سينجم عنه أنفجار هائل أحاول الآن تقليل حدته بالعمل على مواجهته بوسائل التعبير ليكون أقل شدة وسقمًا على نفسي.


الأصدقاء ممن عرفتهم هنا كانوا أصحابَ مكاسب ومطامع، مغرورين بأنفسهم كثيرا، محبين للمال حُبًّا جمًّا ومحال أن يقوم أحدهم بخدمتي دون مقابل، ولأني أعرف وجعهم ودواءهم، ثلاث مئة دولار يا أمي كان المبلغ الذي أعلنت عن تقديمه لمن يسمح لي بتنزيل عنوان للسكن في سجل نفوسه، علاوةً على ذلك سأقوم بالمساهمة مواظبًا على دفع نصف الأجار الشهري لمنزله إلى أن أجد منزلاً آخر. ثلاثة مئة دولار، إذا ما قمنا بتحويلها إلى العملة الرسمية، تساوي رزمة من الأوراق المالية الأعلى فئة، مع ذلك، لم ألقى جوابًا من كلا الطرفين، سوري كان أو تركي.


لا فرق في ذلك بين أبناء وطني وأبناء هذا الوطن، كِلاهما تذبحهم الخشية، كِلاهما تتملكهم اللبكة والرعشة، كِلاهما تتغير ملامحهما إلى ملامح تجعلني أزعم أنهم يكذبون ويضعون الحجج التي تمنعهم من مساعدتي في مشكلتي ، عندما أقوم بطلب النجدة منهم، أحدثهم محاولاً طمأنتهم بعدم وجود أدنى مشكلة سيخلفها ذلك الإجراء، وأنه قانونياً بحتاً، أني سأقوم بدفع كافة التكاليف التي يتطلبها الأمر، أننا في غضون يوم سنستطيع استخراج عنوان السكن وإني لست قاتلًا. ليست هنالك شكاية مرفوعة ضدي، لم أدخل محكمة قط ولست مطلوبًا للعدالة، هم يعرفون ذلك تماما وبرغم من معرفتهم هذه قُبلت بالرفض من جميع الأطراف، أقرباء كانوا أم غرباء، كمية النذالة والتخاذل هذه جعلتني في الآونة الأخيرة أشك أنهم يرون أنني سارق وقاطع طريق وسفاك مجيد. تمنيت أن لا أكون كهؤلاء لأنني سوف أسخر من نفسي بعد كل ما قدمته من تضحيات لهم ولمشكلتي، لكن الحقيقة كانت تسطع أمامي كلما خذلت أكثر. لذلك اليوم أرى نفسي في أعين الآخرين سفاحاً فحسب، وأضحك من نفسي كثيرا. أضحك لأني حاولت أن أثبت براءتي كما لو كنت في قفص الاتهام، وأسخر من نفسي لأني فشلت في اختيار من يراني فاضلاً ومسالمًا وأمينًا. هذه الكلمات وغيرها مثل كلمة شهم وكلمة أصيل وكلمة كريم باتت أقل الكلمات التي أنطقها اليوم، لأنني اكتشفت مؤخرا أنني لم أدخل إلى حياتي من يستحقها بجدارة كي أصفه بها. أذدادت بالمقابل كلمة قليلو وكلمة الضمير وكلمة الخير، وكلمة عدماء وكلمة فاقدي وكلمة الأحساس. تلك هي أكثر الكلمات التي أستخدمها في أحاديثي اليوم. "من فضائل مشكلة تحديث البيانات أنها أسقطت أمامي أقنعة كثيرة وزودتني بمعرفة مع أي صنف من البشر أعيش، ذلك اكتشاف إيجابي جعلني أكثر وعيًا وعلمًا بما يضمره الآخرون. لذا توقفت منذ فترة طويلة عن طلب المساعدة منهم فيما يخص عنوان السكن، معتمدًا في مسعاي لتحديثه على ابتهال والدتي وتضرعها لله.


إقناع التركي لقيامه بتسجيل نفوسك في سجله مغامرة بحد ذاتها، تبدأ بالرفض مع بعض من المجاملات الباردة وتنتهي بالرفض قطعاً. تلك المهمة كانت أمامي أصعب من أن تكلف للبحث عن أدلبي لا يعرف أقراص الشعيبيات، لا أعتب على التركي في ذلك فأنا مهما كنت شخصاً آدمياً ومسالماً سأبقى بعقيدته مندرجاً تحت قاعدة الأشخاص الذين ليس لهم أمان، لا سيما بعدما تم في الأونة الأخيرة تحريضه على أننا أناس متخلفون وجاهلون، مخربين وسيئي السمعة قدمنا من العصر الحجري لا نعرف ما هو التحضر، متهمين بعدم معرفة الشوكولا، نحن السبب وراء كل الكوارث التي تحدث في هذا العالم، ونخطط لاحتلاله والسيطرة عليه، كسب الثقة والمحبة من الجانب التركي هذه قضية أخرى يطول الحديث عنها سأتطرق لكتابتها في وقت لاحق فليس هذا ما أود التعبير عنه على الرغم من أهميته، الفكرة المراد إيصالها إن ما يهمني أكثر من العتب المكدس في قلبي هي تلك الكميات المستوردة من أبناء جلدتي... لدي من العتب عليهم ما يكفي لأفراغ قارورة حبر بسعة مئتي ملليغرام.


الأصدقاء منهم كانو من أسقط ما يكون وهذ اللفظة هنا شظية منبثقة من أنفجار القلب بما يحمله من صمت السخط وخيبة الأمل، فلا أقصده بدلالته الأصلية في اللغة بل لما يرمز له من فساد.

وتقليل في الشأن، والفساد جزءاً لا يتجزأ منهم فالأصدقاء هنا تخاذلوا معي للدرجة التي غدوت بها، لا أشعر بقربهم من القلب ولم أعد مهتماً بأمرهم، هذا ما يعلل نفوري منهم ثم مقاطعتي التامة لهم منذ ستة أشهر. فإنا اليوم، عندما أرى أحداً منهم، لا أستطيع أن أفرق بينه وبين جثة باستثناء أنه يتحرك.


الصديق في وقت الضيق عبارة لا أعلم من قام بتأليفها ولست آبهًا بمعرفة ذلك، لكنني أمهد للقول أن هذه العبارة مناقضة تمامًا بالنسبة لما كنت أملك من أصدقاء في السابق، الأصدقاء أيضًا هم مثل قضية كسب الثقة من الجانب التركي، بل أقول إن قضيتهم تحتاج إلى شراء دفتر خاص وقلم إذا ما عزمت قراري للكتابة عنهم.

في آخر مكالمة هاتفية أجرتها أمي معي، كانت أوضاعي القانونية لا تزال على حالها (أجنبي غير ملتزم، وخارج عن القانون). لدي مخالفتان: مخالفة تحديث البيانات ومخالفة عنوان السكن.


حاولت ذلك الوقت أن أقوم بكل ما أملك من واجبي على مكافحة خوفها وتهدئة أضطرابها. قلت لها حينها: أنا بريء من أية تهم، يا أمي، لدي من الأوراق والفواتير المسددة وعقود الإجار والتحاليل المخبرية والراشيتات الطبية والمستندات ما يكفي لإثبات حقي في الإقامة في هذه البلاد. أضعها جميعًا في حقيبتي وأصطحبها أينما ذهبت تحسبًا لأي دورية أو حاجز تفتيش أو ما شابه.


أنا شخص مسالم يا أمي، أحب هذه البلاد وأحب أن أسير وفق القانون. لا التفتُ إلى الزعرنة، لا أملك لدى الدولة سجلًا جنائيًا وليست هناك مذكرة اعتقال صادرة ضدي. أحدثها بهذا وفي الوقت ذاته أفكر إذا كان الشرطي الذي سيقوم بتوقيفي سيوافق على طلبي ويسمح لي بالذهاب إلى المنزل لأحضر هديات عيد الأم التي اشتريتها لها خلال السنوات الماضية وأصطحاب حقيبتي التي قمت بتجهيزها مسبقًا تحسبًا للترحيل بشكل مفاجئ فأفقد ممتلكاتي من الأغراض والذكريات وأوراق المسودات التي كتبت عليها سبعة فصول من روايتي الأولى "مقام النحل" الذي بات تأليفها عصيًا علي ولم أعد متمكنًا من كتابتها وسردها بالأسلوب الذي أريده بسبب الفوضى العقلية من الهواجس الناجمة عن طرقي المسدودة لتأمين المنزل وتحديث البيانات، العقدة التي باتت تزاحم عقلي بأفكار سلبية تحول بيني وبين أنسجامي العقلي مع الكتابة، لأتوقف في النهاية عنها.

‎‎

أعلم أن كل ما ذكرته من المبررات لن تفي لأنقاذي، وأعلم أن كل ما أملك من أوراق ومستندات لن تجعلني إلا كذابًا ومحتالًا أمامهم، خصوصاً إذا وقعت في قبضة "جماعة الدبابير الحمر". تلك مجموعة خاصة من الشبان المنتمين لأفراد الشرطة، يرتدون بذلة حمراء، يمتطون الدراجات النارية ولا يتجولون إلا بشكل جماعي، متعصبين وطنيًا ومختلفين عن غيرهم من مجموعات الشرطة بأنهم غير متهاونين. سأقذفُ إلى سوريتي من مكاني إذا ما قام أحدهم بتوقيفي، في الحقيقة، أني لا أملك مجازفة للعبور من أمامهم. فحينما أراهم في الشارع دائمًا ما أقوم بتغيير مساري للابتعاد عنهم خوفًا من أن يتم توقيفي واستجوابي. أَعْتَرِفُ أن مخاوفي النفسية منهم تحاجم مخاوفي النفسية الخاصة بمرحلة الطفولة من أحاديث كائن الغول الأسطوري والحكايات الأسطورية المرعبة التي كنت أسمعها.


قبل فترة وجيزة، أتصل بي شخص من العشرين شخصًا من مالكي المكاتب العقارية الذين قيدت عندهم اسمي ورقم هاتفي المحمول كزبون يبحث عن منزل للإجار. أخبرني حينها أنه قد عُرض عليه منزل للإجار بقيمة ثمانية آلاف في الشهر، عدا عن إجرة الكمسيون والتأمين. ثمانية آلاف آنذاك كانت هي قيمة شهر من العمل في هاتاي زائدة عنها خمسمئة ليرة. هذه الخمسمئة ليرة، بالنسبة لكوني أعزب وأسكن بمفردي، تكفي لتسديد الفواتير الشهرية للماء والكهرباء، لكنني لن أستطيع شراء باقة إنترنت وسأبقى أيضًا بلا طعام وبلا نقود. سيصرف معاشي الشهري بالكامل ولن أتمكن حينها من تسديد كل احتياجاتي الشهرية، في الحالة التي كنت قد استأجرت فيها ذلك المنزل. في المرة الأخيرة التي وطأت بها مكتبًا عقاريًا، قال لي مالك المكتب: "البحث عن منزل بات أمرًا أصعب من البحث عن الذهب"، قال هذه العبارة ساخرًا مُشيرًا إلى أزمة استغلال رفع أسعار المنازل وعدم توفرها بعد وقوع زلزال هاتاي المُدمر.

‎‎

تحديث البيانات بِالنسْبَةِ لي كعالق في مَصيدةِ المناطق المحظورة اَمْرٌ كان يتطلبُ الكَثِيرَ من المعاناة والحكمة والأموالَ والصبر، بَذلتهم قاطبة وعملت ليلا ونهارا لكي أجد حلا لمشكلتي التي باتت قضية، مع هذا لن أستطيعَ الهربَ من الفريسة التي تبحثُ عني، نجم عن ذلك الفشل، مخلفات سلبية تعكر حياتي وتوقفها شيء فشيء ..أمكثُ اليوم منعزلا في غرفتي متذمرا تلكمني صدمة الحقيقة أو الحقائق، أراقبُ حياتي كيف تتهاوى أمامي. كيف تعصر وكيف تجف وكما لو أنها تتحول إلى عصر خريفي شاحب أراقب كُلِّ هَذا الدمار بينما أتألم بصمتٍ، أدخن أَكْبَرَ عددٍ مُمكنٍ من لفافاتِ التبغ كردة فعل أُجابِهُ فيها مافرضته علي مشكلتي من وحدة وضجر فأرتكبُ كل ليلة محرقةٌ شنيعة بحق رئتاي، عناصرُ الأمن لا تكف عن رجم عقلي بالحجارة أركض بقلبً منتفضً والأخيلةُ تتقافز نحوي أجلس مختبىء خلفَ حائطٍ ما، بينما ألهث وألعنُ أرباب الضمير الميت، أعيشُ متلازما بحالتين شديدتينِ من الخوف والقلق المتزايد، لا أخرج إلا في الحالات الأضطرارية.


معلمي في الورشة وصاحب البقالية في الحي هم أَكْثَرَ من أراهم لأني ممنوع من الذهاب إلى أي مكانٍ آخر سواهم، وعندما أخرج إلى الشارع أتلفتُ يميناً ويساراً مثل لصٍ محترس ومرات أخرى أمشي غارقاً بعمق ما خلفته مُشكلتي من الأفكار السلبية فلا أنتبه لنفسي أصبحُ كما لو أنني غفوتُ عن هذا العالم، أستيقظ من غفوتي عندما أشاهد من أمامي عنصرينِ أمنٍ يسيرون ناحيتي، يَحْدُثُ وأراهم بشكل شبه يومي أثناء عودتي من العمل، أرتجف خوفاً من ألا أكون أنا الشخص المقصود. أحاول مواراةَ خوفي وأرتباكيَ لكي لا أثير شكوكهم بي، عندما يصيرون على مسافةٍ قريبة مني أتظاهر بالإنسان الطبيعي أتغاضى النظر إليهما، أخرج هاتفي المحمول من جيبي وأمثلُ أنني أتحدث على الهاتف بلغتهم الأم محاولاً التمويه عن أجنبيتي.


أشتقت إلى أسكندرون، كثيراً وأشتاق إلى بحرها الشاسع وإلى التجول بأسواقها وحدائقها كما كنت أفعل في الأيام الماضية عندما كنتُ حراً، عام ونصف مضى وأدلب كابوس يطارد ثباتي، جاثوم ينقض على صدري ويغرز مخالبهُ في رئتاي. أستيقظ فيخيل لي أنني منساق إلى الهلاك ومكبل الأيدي وسط حشدٍ من المُتفرجين، عامٌ ونصف وأنا أخشى من مَصيريَ المجهول، أنامُ وأستيقظ وأنا أفكر كَيْفَ سأحدثُ بياناتي.



- وافي نور، سوري، 28 سنة، مقيم في هاتاي.

bottom of page